الأحد، 27 مارس 2016

لم أتوقع أن يكون هناك من يشعر بى لدرجة أن يمنحنى لقب الام المثالية


منذ أنجبت أبنتى ، وقد صاحب ميلادها بعض المآسى التى حرمتنى من التمتع بإرضاعها ، كانت أمى قد مرضت قبل ولادتى بأشهر قليلة بالمرض القاتل ورفضت بشدة أن تجرى أى جراحة قبل أن تشهد سبوع أبنتى وتدق لى الهون بيدها ، وتحمل طفلتى فى حضنها ، وبالفعل حدث لها ما ارادت ، وما أن أتمت أبنتى 40 يوما حتى توفيت أمى ، ثم لم أستطيع أن أحزن حزنا يليق بفقدان أمى لأن زوجى سرعان ما لحقها ودخل هو الأخر "معهد ناصر" وظل بالمستشفى قرابة عام كامل ، ثم توفاه الله وهو لم يكن يتبع التأمين الصحى ، سعيت بواسطة للحصول على قرار علاج ، وفعلا قرار فى قرا ر لكن محمد لا يريد الجلوس فى غرفة القرار ، ولا أكل المستشفى ولا ملابس المستشفى .
وفقنى الله أن أكون خير معين له ، وحدى تماما معه ، يتعرض لأزمة شديدة ينزل العناية المركزة ثم اترك ابنتى مع اختى واتأخر حتى ساعات متأخرة معه فى المستشفى التى تتعنت معى نظرا لأن تواجدى ممنوع ليلا فى زيارته ، والأصدقاء الذين كانوا يزورنه كل فترة ، لم يستطعوا المداومة على الحضور ، فقد طالت مدة الاقامة فى المستشفى وكذلك من يساعدك مرة لن يساعدة اكثر من مرة ، ومع ذلك هناك اثنان لم يوقفا زيارتهما ابدا ، اكثر الله من امثالهم ، كانوا يساندوننى انا وهم لا يشعرون لان وقتها علمت لماذا قيل ان زيارة المريض صدقة ، لأنك تفعل خيرا كبيرا فى المريض واهله ، وكأنه صدقة فعلا تخرج من وقتك ومالك وروحك ، لقد كان هناك صديق لنا هو من الكتاب المهمين الان ، يأتى لنا بزيارة شهرية من البلد وكأنه أخوه أو أبن عمه عام كامل هو عام المرض قضيته بقروض من البنوك ، ومساندات من اصدقاء متفرقين ، دونت مساعدتهم ، ليس لأردها لأنهم يرفضون الرد ومساعدتهم اكبر من أن ترد ، ولكن لتعرف أبنتى عندما تكبر من ساعدها ووقف بجانبها، حتى تعلم من ساند أمها ولتساند هى الأخرى كل من يحتاج مساعدة كما ساعدها الله يوما ما .                                                                                          دور الزملاء                                         
كان الزملاء فى العمل ، وهى "مجلة شاشتى" فى ذاك الوقت ، دائما ما يجمعون مال فى المناسبات لبعضهم البعض ، منها مثلا أعياد الميلاد ، أو ختان الذكور ،والافراح ، والعزاء ، وكانوا بكل لطافة فى ذلك الوقت ، يقومون معى بواجب كبير جدا لم ولن انساه لهم ابدا ، وهو "تسخين" رئيس التحرير على ، و"تسخينى" انا شخصيا على رئيس التحرير ، والتى كانت وقتها امرأة يرونها امرأة جبارة ومفترية لأنها تطالبنى بأن أقوم بعمل أرشيف لشغلها ، وكان هذا من صميم عملى وقتها كسكرتيرة لرئيس تحرير ، وكانوا يتبرعون بأن يخبرونها عن مدى تقصيرى فى عملى وانشغالى بكتابتى بعيد عن العمل ، وكذلك كانوا يبذلون قصارى جهدهم ليجعلوننى اتذمر عليها لاننى اقوم بعمل ليس من صميم عملى كأن ينقلون لى كلاما تقوله عنى أو ينسبون لها كلاما تقوله عنى ، او يسبونها امامى لأقوم بدور العصفورة الذى يعتقدون انه دور السكرتيرة الطبيعى ، ولكنهم لم يروا وقتها إننى مشغولة بأشياء أخرى بعيدة تماما عن مؤامراتهم ، ولم يروا جيدا أنها الوحيدة التى ساندتنى فى تلك المجلة أصلا ، حيث كانت تسمح لى بأن أتى للعمل لمدة ساعتين فقط فى ظل ظروف وجود زوجى فى المستشفى ، ولم تكن تعلق ابدا على عدم تواجدى لمدة عام ، تحملتنى وساعدتنى ، رغم تسخين الجميع لها ، وكذلك انا تحملت ذلك العمل بمحبة لأننى كنت اريد ان ارد لها الجميل ، فلم تبلغ عنى إدارة ، أو تسلط على شئون العاملين مثلا ، أو توبخنى حتى لأننى اذهب لزوجى فى المستشفى ، كانت تلك المرأة هى "منى نشأت رئيس تحرير شاشتى" فى ذلك الوقت ، ربما لم تساندنى ماديا ، ولم أتقاضى وقتها مكأفأة حتى تسند الامر ، لكن كان سلوكها معى كأم وانسانة يكفى عن أى مساعدة مادية فى الحياة ، فلم أكن أحتاج وقتها لأكثر من تقدير موقفى المأساوى أنسانيا ، حتى عندما مات زوجى ، هى من أرسلت لى السيارة التى اقلته للمقابر ، وأمرت وقتها باتمام كل الإجراءات ، كما كانت الادارة وقتها بصراحة تتعاطف مع كل طلب سلفة أتقدم به ويوافقون عليه نظرا لمعرفتهم لظروف مرض زوجى
حتى بعد تعاقب رؤساء تحرير لشاشتى ، سواء الاستاذ جلال حمام الذى كان اب طيب حقا ومحفز على ان أقوم بدورى كصحفية وأم على خير وجه ولم يعلق مرة واحدة على اصطحابى لها ، وكذلك الاستاذ حسام الليثى الذى حاول قدر المستطاع أن يتحملها مع انه لا يتحمل ضحيح الاطفال ، بصراحة كانوا يتعاطفون مع اصطحابى لها دائما معى نظرا لعدم وجود مكان يمكن أن أترك فيه ابنتى بعد تخطيها سن الحضانة .. وعندما انتقلت لمجلة حريتى ، جاء لنا رئيس تحرير محترم ، يراعى ظروف الجميع وساندنى هو الآخر دون أن يقصد لأنه أساسا جاء من مكان يعرف الجميع فيه كيف يقدر ظروف الاخرين شرط ألا يؤثر ذلك على سير العمل وهو رجل صعيدى اسمه "عصام عمران " رئيس تحريرى الان ومن حسن الحظ ايضا انه يقدر قيمة العمل الثقافى جدا ، اذا فرغم اجتهاد الزملاء الطيبون كان الله طيب فعلا معى ولكن طيبة تنبع من إله فكان دائما يدبر امرى مع الكبار وليس مع الصغار .

                                          بعد الوفاة 
وبعد وفاة زوجى ظل الزملاء "الطيبون" على اصرارهم بعدم الشعور بى اطلاقا ، حيث لم يفكروا ولو لحظة إننى ربما أحتاج انشالله لايجار شهر للبيت ، أو حتى لبن اطفال ، هم حتى لم يجربوا أن يفعلوا مثلما فعلوا مع غيرى فى أعياد الميلاد والطهور ، ولكنى لا أغضب منهم ولا يفرق معى حقا ففى الوقت الذى كان بعض زملاء العمل لا يشعرون بشىء وملهييون فى جمع فتات النفاق الاجتماعى شهريا للمناسبات الذى لا اعرف مناسبة تشبه الموت اكبر منها ، كان الله يغدق على من كرمه بمساندة أصدقاء لم اتوقع مساندتهم ابدا ، وبعدما توفى محمد رحمة الله عليه ، وبدأت معاناة جديدة ، لا يوجد شقة ، لاننى لا استطيع تأجير شقة لانى أفلست وتداينت ، ومرتبى كله راح قروض واقساط عفش حللت ضيفة بعفشى وأبنتى عند اخى ، تعبنا انا ونهى جدا ، أخر بهدلة ، أصحابى جمعوا من بعض وقاموا بتأجير شقة لى فى فيصل ، وظلوا يساعدوننى فى دفع إيجارها ، وبابا قائم بالأكل والشرب ومصاريف نهى ، اللهم ما متعه بالصحة والعافية ، وكل هذا وهو يصرف على أخى الكبير بزوجته وأولاده لأن عمله لا يساعده على أكل عيش حاف، مع العلم ان بابا لا يملك غير المعاش ، ومع ذلك كان يساعدنى ، كل هذا يحدث وأنا أنزل للعمل ووقف اصدقائى بجانبى ليس شفقة ولا إحسان و لا محبة ودلع منهم لنونو ، بل أن لدى من يساعد فى رفاهية نونو وتدليلها لأبعد حد ، أى مظاهر دلع ورفاهية كلها هى لنونو.
                                           تكريم فى وقته
أثنا عشر عاما لم أشترى شيئا لنفسى من محل ملابس أو ازياء ، فى الوكالة كل الأذواق التى تناسبنى ومستوردة ، أما نونو فاصطحبها فى يدى لنذهب لأحسن محلات ملابس الاطفال ، حتى تعتاد على الشراء بنفسها والاختيار والقياس والاختيار، فأنا شبعت من الحياة رفاهية وانا فى بيت أبى ، تدليل وهدايا وكل شىء .. ومن نعمة ربى أنى اكتشفت كم أن لدى القدرة على التكيف مع كل الاوضاع المادية التى تمر بى ، فقد تفاجئت انا شخصيا بقدرتى على ذلك .
لكن تعليم أبنتى أهم عندى من حياتى نفسها ، لانى لن اعيش لها ولا أنوى أن أتركها لتخدم فى البيوت او تتزوج وعمرها 14 عاما لتصبح عجوز فى ال30 ، فالبنت سلاحها تعليمها الذى يسندها ضد غدر الزمن ، فى حين إنى أنا وبابا وأصدقائى ربنا يكرمهم مدلعينها اخر دلع .
تحب نونو التمثيل والرقص والغناء والرسم وأنا معها فى كل ما تحبه ، واطاوعها فى كل رغباتها ، ورغم أن البعض يملى على طريقة تربية قاسية حتى لا تفسد البنت منى لأنها بنت يتيمة ووحيدة إلا أننى لن أربيها أيضا بقسوة لنفس السبب .
ليس لإننى أمرأة وحيدة تربى بنت وحيدة أحولها لذكر مذعور من الحياة ، ولا لفتاة منحلة ، سأربيها كما ربانى أمى وأبى ، بالمحبة والتفاهم والحب والنقاش ، والعقاب الذى يليق بفتاة تفكر عقاب يليق بإنسان يعقل ويفهم من حوله ، وليس بعقاب حيوان مسكين لا حول له ولا قوة ، أبنتى هى أنفاسى الذى أحيا بها ، والذى لها وحدها يمكن أن اتخلى عن كل الكون لأجل عيونها هى من تحملت معى كل صعوبات الحياة وستتحمل معى القادم ، وهى التى من أجلها أتخلى عن أى حلم يمكن أن ينال من حريتها وسعادتها وحبها للحياة ، لو طلبت منى أى شىء يمكن أن أستغنى عنه لأجلها سأفعل ، وليس بفاعل التضحية البلهاء ، ابدا بكل محبة ، فليس هناك فى هذا الكون أهم من أبنتى ولا أغلى ، وليس على وجه الارض ما يستحق ان انال من سعادة ابنتى بسببه ، حتى لو كان فيه اكبر الفائدة لى ، صحيح انا كاتبة وروائية واديبة ، وكل حياتى هى العلاقات الاجتماعية ولكن اذا نالت تلك العلاقات الاجتماعية والذى احبها جدا على فكرة ، فانا احب حضور الندوات واللقاءات الثقافية والجلوس مع المقهى مع الاصدقاء ، ولكن كل هذا لا معنى لها اذا لم تكن ابنتى راضية وسعيدة ، فرضاها على كأنه رضا أمى عنى ، كرضايا انا عنها.
لا أصف لكم سعادتى أنا أفاجىء هذا العام بأن يتم تكريمى كأم مثالية لأبنتى من مؤسستى الذى طالما تفاخرت باننى اعمل بها وبأننى احبها رغم انتقادات الزملاء انفسهم وانتقادات من حولى ، فقد تربيت فى هذا المكان واعطيته من كل طاقتى وها هو بكل محبة يرد حبى له ، يكرمنى كأم مثالة وانا التى طالما تساءلت وانا أربيها هل سأوفق يوما فى تربيتها ، فانا كغيرى اعانى فى تجميع مصاريف دراستها سنويا وفى كل مصاريف اليوميات مثلى مثلكم جميعا وكذلك تلك الايام المرة التى تمر عندما تمرض ويصينى رعب عليها ، ولا اعرف اين اذهب بها وحدى وتمر دون ان يشعر احد بلحظات الرعب تلك ، ولم اكن اشعر ان هناك من يشعر بى أساسا ، فأذا بجريدتى الذى احبها وطالما كتبت عن عشقى لها ، فتقوم جريدة الجمهورية بتكريمى فى هذا اليوم وكأنها كانت ترى كل ما سبق وحكيت لكم عنه ، وكأنها تشعر بالمعاناة الذى لم اشتكى منها يوما ولن اتذكرها ايضا يوما ما على انها معاناة ، فأنا مثلى مثل كل الامهات فى هذا الكون ، كل ام تعانى بطريقتها وبأسلوبها وبظروفها ، ربما أكون محظوظة بأن رأنى وشعر بى احد فى ذلك الوقت تحديدا الذى كنت احتاج فيه لان يشد على يدى احدهم ويقول لى أنت تمام أكملى ولا تقلقلى ، فالله معك ونحن جنوده ارسلنا لك لنخبرك كم تبلى حسنا ايها الام الوحيدة .
أشكر الله العظيم على كل منحه وعطاياه ، بداية من مرض امى وزوجى ووفاتهما ونهاية بتكريم اتمنى أن يليق بى دائما ، وأن أصير فعلا فى المستقبل تلك الام التى استحقت يوما لقب الام المثالية .

وأشكر كل من ساعدونى لاصبح أما مثالية فلولاهم ما استطعت التركيز فى تربية ابنتى بكل هذا الهدوء ، هم يعرفون انفسهم واحد واحد ، واحدة واحدة ، بارك لله فيكم ولكم .