بعد يوم جمعة طويل ، مر على كسيدة منزل مهذبة ، أعددت
فيها شوربة "سى فود" لأبى وزوجته الطيبة مع أرز السمك وبلطى مشوى ، وقمت
بنظافة البيت وإشغال البخور وقت الصلاة ، وبعدما استطعت الهروب لساعتين فى الميدان
بحجة شراء الغذاء ، ثم عدت وأعددت الطعام ، نامت ابنتى فى موعدها فى تمام الثامنة
، وانصرف أبى وزوجته ، وبقيت أنا كعادتى منذ خمس سنوات ، ينصرف الجميع ، وتؤنسنى
وحدتى كعجوز ضاقت بها الحياة ، وضاق خلقها معها ، أتلصص على الماضى عبر ذاكرة
مشوشة ، استدعى ذكريات ليس مهمة لأحد ، ربما استطيع خلق شىئ مهم منها ، أجلس وحيدة
فى شرفة خشبية قديمة ، تهتز كلما حركت يدى على السور.
كعجوز
هاجمها ألزهايمر ، تنادى على أولادها الذين انشغلوا عنها
فى الدنيا الكئيبة ، أتابع مظاهرة حاشدة تعبر شارع شامبليون ، ثم أسأل العابرون ،
لماذا لم يسقط النظام؟! فقد مر عمرا طويلا فى الكفاح وسالت انهار دماء لأحباء
وحررت البلد من الأعداء ، لماذا لم يسقط النظام؟
كعجوز
انحنى ظهرها ، وطلع لها نتوء مشوه ، اجلس مع أرواح
البيت الطيبين:
أسألهم لماذا اقترب من الجنون هكذا ، فالوحدة بالتأكيد
ليست سببا يا اصدقائى
فلا يجيبون أصلا ؟ ، ويتركونى لوحدتى عمدا ، غير مباليين
بإثبات وجودهم بطرق صاخبة كعادتهم.
أقوم بتأنيب نفسى ، لأننى لم أبذل جهدا كافيا للنزول
للميدان اليوم كعادتى ، فقط لان صديقة طيبة قامت بإخبار أبى أن ما أفعله فى الثورة
هو الجلوس على المقهى واحتساء الشيشة على سبيل المزاح ، فيأتى ابى خصيصا اليوم لزيارتى
، خوفا على وعلى أبنتى من ثورتى ، لم أحب أن أعاتبها على اختزالها لشخصى فى الشيشة
التى على ما يبدو انها تنظر لمدخنتها كما ينظر الرجل لها تماما .
قرارا ليس صائبا ، ولا يفيد احد على الإطلاق ، ولن يضر
احد أيضا ، أن أمتنع عن الكلام والكتابة فى السياسة ، لأن هناك أشخاصا يعتقدون
أنهم الأحق فهم الذين أمضوا عمرهم فى ممارستها ، أما أمثالى ممن أخذتهم حماسة
الثورة ، فلا داعى أن يعيشوا فى الدور أكثر من ذلك ، ويصدقوا أنهم بيفهموا أصلا !
كعجوز
أحدث نفسى امام المرآة عن هواجسى تجاه العالم الحزين لكل
اصدقائى ، وان على ان استمع للنصيحة التى ورمت أذنى ، انت أنثى لها احتياجات ،
ولاداعى لأن تننشغلى بما ليس لك ، ركزى فى نفسك وابنتك ، ترى هل بلدى ليست لى ، هل
هى فقط لمن مارسوا سياسة خرساء لسنوات ولم تقم لهم قائمة ، إلا بانضمام امثالى ممن
لم يكونوا يوما مسيسيين ، ما بالى ابدوا كحمقاء مغتاظة من سلوك الصديقة التى لم
تكن تقصد بالتأكيد ، أن تزايد على وطنيتى أمام مرأى ومسمع من أشخاص كثيرين ، فأنا
بالتأكيد أراعى رغبتها العنيفة فى أن تبدو هى المتحمسة الثورية الوحيدة فى هذه
البلد ، واعرف إنها ستغضب قليلا ، ثم تسأل الأصدقاء المشتركين والذين سيميلون
بالتأكيد لمواساتها ، بأننى كدا ومعلش متزعليش انت مغلطتيش فى حاجة ، بس هى طيبة
وكدا ؟ ههههههههههه
احمد الله اننى لست طيبة وكدا ؟
وان لى شكوك وظنون شريرة تجاه العالم ، تنقذنى من مآسى
حقيقية ترواغنى لأقع فيها بسهولة ، أنا حزينة لقراري الأبله هذا ، والذى كما سبق
وقلت لن يقدم أو يؤخر مع احد ، أنا فقط ، من سأعانى بفقد إحساس من أروع الأحاسيس
التى مررت بها فى حياتى وهى الأحاسيس الثائرة تجاه الظلم ، سامحك الله يا صديقتى
الطيبة .
لوحة الفنان التشكيلى مارى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق